سورة آل عمران - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ}. قرأ الحسن وأبو جعفر: {كاين} مقصوراً بغير همزة ولا تشديد حيث وقع.
وقرأ مجاهد وابن كثير وشيبة: {وكأين} مهموزاً ممدوداً مخففاً على وزن فاعل، وهو اختيار أبي عبيد، اعتباراً بقول أُبي بن كعب لزر بن حبيش: {كاين} بعد سورة الأحزاب. فقال: كذا آية.
وقرأ ابن محيصن: {كأي} ممدوداً بغير نون.
وقرأ الباقون: {وكأيّن} مشدوداً بوزن كعَيّن، وهي لغة قريش واختيار أبي حاتم، وكلها لغات معروفة بمعنى واحد.
وأنشد المفضل:
وكائن ترى في الحي من ذي صداقة *** و غيران يدعو ويله من حذاريا
وقال في التشديد:
كأين من أناس لم يزالوا *** أخوهم فوقهم وهم كرام
وجمع الآخر بين اللغتين، فقال:
كأين أبدنا من عدوّ يغزنا *** وكأين أجرنا من ضعيف وخائف
ومعناه كم، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهام، ولم يقع التنوين صورة في الخط إلاّ في هذا الحرف خاصة.
{قُتل}. قرأ قتادة وابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب {قتل}: وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي حاتم.
وقرأ الآخرون: {قاتل}، وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد، فمن قرأ {قاتل} فلقوله: {فَمَا وَهَنُواْ} ويستحيل وصفهم بأنهم لم يُهنوا بعدما قُتلوا، ولقول سعيد بن جبير: ما سمعنا أن نبياً قط قُتل في القتال.
وقال أبو عبيد: إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قُتل داخلا فيه، وإذا حمد من قُتل خاصة لم يدخل فيه غيرهم، فقاتل أعم.
ومن قرأ {قتل} فله ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون القتل واقعاً على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قراءة {قتل} فيكون في الآية اضمار معناه ومعه {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه، ويقول: خرجت معي تجارة، أي ومعي.
والوجه الثاني: أن يكون القتل نال النبي ومعه من الربيين، ويكون وجه الكلام: قتل بعض من كان معه، تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني فلان، وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} راجعاً إلى الباقين الذين لم يقتلوا.
والوجه الثالث: أن يكون القتل للربيين لا غير.
{رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، قرأ ابن مسعود وأبو رجاء والحسن وعكرمة: {رُبيون} بضم الراء، وهي لغة بني تميم.
الباقون: بالكسر، وهي اللغة الفاشية العالية.
والربيون جمع الربّية وهي الفرقة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع.
السدي: جموع كثير.
قال حسان:
وإذا معشر تجافوا عن الحق *** حملنا عليهم رُبيا
ابن مسعود: الربيون الألوف، الضحاك: الربية الواحدة ألف، الكلبي: الربية الواحدة عشر ألف، الحسن: فقهاً علماً صبراً، ابن زيد: هم الأتباع، والرابيون: هم الولاة، والربيون: الرعية، وقال بعضهم: هم الذين يعبدون الرب، والعرب تنسب الشيء إلى الشيء فيغير حركته كما يقول بصريٌّ منسوب إلى بصرة، فكذلك ربيّون منسوب إلى الربّ، وقال بعضهم: مطيعون منيبون إلى الله فما وهنوا.
قرأه العامة: بفتح الهاء، وقرأ قعتب أبو السماك العدوي: بكسر الهاء، فمن فتحه فهو من وَهن يهن وهناً، مثل وعد يعِد وعداً، قاله المبرد وأنشد:
إن القداح إذا اجتمعن فرامَها *** بالكسر ذو جَلد وبطش أيد
عزّت ولم تكسر وإن هي بددت *** قالوهن والتكسير للمتبدد
ومن كسر فهو من وَهِن يهن، مثل وَرِم يرم قاله أبو حاتم.
فقال الكسائي: هو من وهن يوهن وهناً، مثل وجل يوجل وجلاً.
قال الشاعر:
طلب المعاش مفرق بين الأحبة والوطن *** ومصير جلد الرجال إلى الضّراعة والوهن
ومعنى الآية: فما ضعفوا عن الجهاد لما نالهم من ألم الجراح، وقيل: الأصحاب وما عجزوا لقتل نبيّهم.
قال قتادة والربيع: يعني ما ارتدّوا عن بصيرتهم ودينهم، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بالله، السدي: وما ذلّوا، عطاء: وما تضرّعوا، مقاتل: وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم، أبو العالية: وما جبنوا، المفضل والقتيبي: وما خشعوا، ومنه أخذ المسكين لذله وخضوعه وهو مفعيل منه، مثل مِعطير من العِطر ومنديل من الندل، وهو دفعه من واحد إلى آخر، وأصل الندل السوق، ولكنهم صبروا على أمر ربّهم وطاعة نبيّهم وجهاد عدوهم. {والله يُحِبُّ الصابرين * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ}.
قرأ الحسن وابن أبي إسحاق: {قولهم} بالرفع على اسم كان وخبره في قوله: إن قالوا.
وقرأ الباقون: بالنصب على خبر كان والاسم في أن، قالوا تقديره: وما كان قولهم إلاّ قولهم كقوله: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [الأعراف: 82] و{مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} [الجاثية: 25] ونحوهما، ومعنى الآية: وما كان قولهم عند قتل نبيّهم {إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} يعني خطايانا الكبار، وأصله مجاوزة الحد {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} كيلا تزول {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فهلاّ فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد {فَآتَاهُمُ الله}، وقرأ الجحدري: فأثابهم الله من الثواب، {ثَوَابَ الدنيا} النصرة والغنيمة {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} الأجر والجنة {والله يُحِبُّ المحسنين * يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} يعني اليهود والنصارى، فقال علي رضي الله عنه: يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم، {يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ} يرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله تعالى {فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} فتنقلبوا مغبونين ثم قال: {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ} ناصركم وحافظكم على دينكم {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين * سَنُلْقِي}.
قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أُحد متوجهين نحو مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنّهم ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلاّ الشريد وتركناهم رجعوا. فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا همّوا به. وستأتي هذه القصة بتمامها إن شاء الله وما نزّل الله تعالى فيها.
{سَنُلْقِي} قرأ أيوب السختياني: سنلقي بالله يعني الله عزّ وجلّ لقوله: {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ}، قرأ الباقون: بالنون على التعظيم أي سنقذف، {فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} الخوف وثقل عينه، أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وخففها الآخرون.
{بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله} هو (ما) المصدر، تقديره باشراكهم بالله {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} حجة وبياناً وعذراً وبرهاناً، ثم أخبر عن مصيرهم فقال: {وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين} مقام الكافرين.
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ}، قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم بأُحد، فقال ناس من أصحابه: من أين أصابنا وقد وعدنا بالنصر، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} الذي وعد بالنصر والظفر، وهو قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} الآية، وقول رسول الله للرماة: «لا تبرحوا مكانكم فإنا لا نزل غالبين ما ثبتم»، والصدق يتعدى إلى مفعولين كالمنع والغصب ونحوهما، {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أُحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل حنين وهو جبل عن يساره، وأقام عليه الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: «احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا».
وأقبلوا المشركون وأخذوا في القتال، فجعل الرماة يرشفون بالنبل والمسلمون يضربونهم بالسيف حتى ولوا هاربين وانكشفوا منهزمين، فذلك قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي تقتلونهم قتلا ذريعاً سريعاً شديداً.
قال الشاعر:
حسسناهم بالسيف حسّاً فأصبحت *** بقيتهم قد شردوا وتبددوا
وقال أبو عبيدة: الحس الاستيصال بالقتل، يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد، وسَنَة حسوس إذا أتت على كل شيء.
قال روبة:
إذا شكونا سنة حسوساً *** تأكل بعد الأخضر اليبيسا
{حتى إِذَا فَشِلْتُمْ}، قال بعض أهل المعاني: يعني إلى أن فشلتم، جعلوا {حتى} غاية بمعنى إلى، وحينئذ لا جواب له.
وقال الآخرون: هو بمعنى فلما وفي الكلام تقديم وتأخير قالوا: وفي قوله: {وَتَنَازَعْتُمْ} مقحمة زائدة، ونظم الآية: حتى إذا تنازعتم {فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ} وفشلتم أي جبنتم وضعفتم، ومعنى التنازع الاختلاف، وأصله من نزع القوم الشيء بعضهم من بعض، وكان اختلافهم أن الرماة تكلموا حين هُزم المشركون وقالوا: انهزم القوم فما مقامنا، وقال بعضهم: لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة وانطلق الباقون ينهبون، فلما نظر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى ذلك، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح فصارت دبوراً بعد ما كانت صبا، وانتفضت صفوف المسلمين، فاختلطوا وجعلوا يقتتلون على غير شعار، فقتل بعضهم بعضاً وما يشعرون من الدهش، ونادى إبليس ألا إن محمداً قد قتل، وكان ذلك سبب هزيمة المؤمنين.
{مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} يا معشر المؤمنين ما تحبون هو الظفر والغنيمة {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} يعني الذين تركوا المركز فاقبلوا إلى النهب {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} يعني الذين ثبتوا مع ابن جبير حتى قتلوا.
وقال عبد الله بن مسعود: ما شعرت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أُحد فنزلت هذه الآية {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي ردّكم عنهم بالهزيمة {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، قاله أكثر المفسرين، ونظيره: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم} [البقرة: 52].
وقال الكلبي: يعني تجاوز عنكم فلم يؤاخذكم بذنبكم.
{والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين * إِذْ تُصْعِدُونَ} يعني ولقد عفونا عنكم إذ تصعدون هاربين.
قرأه العامة: {تُصعِدون} بضم التاء وكسر العين.
وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن والحسن وقتادة بفتح التاء.
وقرأ ابن محيصن وشبل: إذ يصعدون ويلوون بالياء، يعني المؤمنين. ثم رجع إلى الخطاب فقال: {والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ} على البلوى.
قال أبو حاتم: يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره، والاصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب، والصعود الإرتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدّرج، قال المبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب.
قال الأعشى:
إلاّ أيهذا السائلي أين أصعدت *** فإنّ لها من بطن يثرب موعدا
وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في كل سفر والانحدار والرجوع منه يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك، إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر وانحدرنا إذا رجعنا.
وأنشد أبو عبيدة:
لقد كنت تبكين على الاصعاد *** فاليوم سرحت وصاح الحادي
ودليل قراءة العامة قول النبي صلى الله عليه وسلم للمنهزمين: «لقد ذهبتم فيها عريضة».
وقرأ أُبي بن كعب: إذ تصعدون في الوادي، ودليل فتح التاء والعين ما روى أنهم صعدوا في الجبل هاربين وكلتا القراءتين صواب، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد. وقال المفضل: صعد وأصعد وصعّد بمعنى واحد.
{وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} يعني ولا يعرجون ولا يقيمون على أحد منكم، لا يلتفت بعض إلى بعض هرباً.
وقرأ الحسن: ولا يلوُن بواو واحدة اتباعاً للخط، كقولك: استحببت واستحبت على أحد.
قال الكلبي: يعني على محمد صلى الله عليه وسلم {والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ} أي في آخركم ومن ورائكم إليَّ عباد الله فأنا رسول الله من بكّر فله الجنة، يقال: جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس واقرى الناس وأُخراة الناس وأُخريات الناس، فجاز لكم جعل الأنابة بمعنى العقاب وأصلها في الحسنات كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24].
قال الشاعر:
أخاف زياداً أن يكون عطاؤه *** أداهم سودا أو محدرجة سمرا
يعني بالسود: القيود والسياط وكذلك معنى الآية، جعل مكان الثواب الذي كنتم ترمون غمّاً بغمّ.
قال الحسن: يعني بغم المشركين يوم بدر.
وقال آخرون: الباء بمعنى على، أي غمّاً على غمَ، وقيل: غمّاً بغم، فالغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والغم الثاني ما نالهم من القتل والهزيمة، وقيل: الغم الأول انحراف خالد ابن الوليد عليهم بخيل من المشركين، والغم الثاني حين أشرف عليهم أبو سفيان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه فقال: «أنا رسول الله» ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح النبي حين رأى في أصحابه من يمتنع، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، ثم أشرف عليهم، فلما نظر المسلمون إليهم، همّهم ذلك وظنّوا أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تُقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض» ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم فنزلوا سريعاً.
{لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ} من الفتح والغنيمة {وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ} {ما} في موضع خفض أي: ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة حين أنساكم ذلك هذا الغم، وهمّكم ما أنتم فيه غماً قد أصابكم قبل.
فقال الفضل: {لا} صلة معناه: لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم في خلافكم إياه، وترككم المركز كقوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29]. {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم}، روى عبد الله بن الزبير بن العوام عن أبيه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم، والله لا نسمع قول مصعب بن عمير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلاّ كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، فأنزل الله تعالى {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم} يا معشر المؤمنين وأهل اليقين، {أَمَنَةً} يعني أمناً، وهي مصدر كالعظمة والغلبة، وقرأ ابن محيصن: أمنة بسكون الميم.
{نُّعَاساً} بدل من الأمنة {يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ}، قرأ ابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: {تغشي} بالتاء رداً إلى الأمنة، وقرأ الباقون: بالياء رداً إلى النعاس، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال أبو عبيد: لأن النعاس يلي الفعل، فالتذكير أولى به ممّا بعد منّه.
قال ابن عباس: آمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد فرق، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام، ونظيره في سورة الأنفال في قصة بدر.
روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أُحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلاّ وهو يميد تحت جُحفته من النعاس.
قال أبو طلحة: وكنت ممّن أُلقي عليه النعاس يومئذ، وكان السيف يسقط من يدي فآخذه، ثم يسقط السوط من يدي من النوم فآخذه.
{طَآئِفَةً} يعني المنافقين، وهب بن قشير وأصحابه، وهو رفع على الابتداء وخبرها في قوله: و{يَظُنُّونَ} {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي حملتهم على الهمّ، يقال: أمر مهم، ومنه قول العرب: همّك ما أهمّك.
{يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق} أي لا ينصر محمداً، وقيل: ظنوا أن محمداً قد قتل {ظَنَّ الجاهلية} أي كظن أهل الجاهلية والشرك {يَقُولُونَ هَل لَّنَا} أي ما لنا، لفظ استفهام ومعناه هل {مِنَ الأمر شَيْءٌ} يعني النصر {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ}.
قرأ أبو عمرو ويعقوب: {كلّه} على الرفع بالابتداء وخبره في قوله: لله وصار هذا الابتداء والجملة خبراً لإنّ، كما يقول: إن عبد الله وجهه حسن، فيكون عبد الله مبتدأ ووجهه ابتداء ثانياً وحسن خبره، وجملة الكلام خبر للإبتداء الأول.
وقرأ الباقون: {كله} بالنصب على البدل، وقيل: على النعت.
وروى مجاهد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية} يعني به التكذيب بالقدر، وذلك أنّهم يظنوا في القدر، فقال الله عزّ وجلّ: {إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} يعني القدر خيره وشرّه من الله وهو قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} وذلك أنّ المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولمّا قتل رؤساؤنا، فقال الله: قل لهم: {لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ} لخرج.
وقال ابن أبي حيوة: {لبُرّز} بضم الباء وتشديد الراء على الفعل المجهول.
{الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل}، قرأ قتادة: القتال {إلى مَضَاجِعِهِمْ} مصارعهم، {وَلِيَبْتَلِيَ الله} ليختبر الله {مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ} يخرج ويطهّر {مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} بما في القلوب من خير أو شر {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ} انهزموا {مِنكُمْ} يا معشر المؤمنين {يَوْمَ التقى الجمعان} جمع المسلمين والمشركين {إِنَّمَا استزلهم الشيطان}.
قال المفضل: حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلّة وهي الخطيئة.
وقال القتيبي: طلب زلتهم، كما يقال: استعجلت عليها، أي طلبت عجلته، واستعجلته طلبت عمله، وقيل: أزل واستزل بمعنى واحد.
وقال الكلبي: زيّن لهم الشيطان أعمالهم حينما كسبوا، أي بشؤم ذنوبهم، قال المفسرون: بتركهم المراكز، وقال الحسن: ما كسبوا قبولهم من إبليس وما وسوس إليهم من الهزيمة.
{وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
وروى إبراهيم بن إسحاق الزهري، أن جعفر بن عون حدثهم أن زائدة حدثهم عن كليب ابن وائل قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان أكان شهد بدراً؟ قال: لا، قال: أكان شهد بيعة الرضوان؟ قال: لا، قال: أفكان من الذين تولّوا يوم التقى الجمعان؟ قال: نعم، فقيل له: إن هذا يرى أنك قد عبته، فقال: عليّ به، أمّا بدر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب له بسهمه، وأما بيعة الرضوان فقد بايع له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يد عثمان، وأما الذين تولوا يوم التقى الجمعان [فإن الله قال: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ}] فاذهب فاجهد عليّ جهدك.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)}
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ} يعني المنافقين عبد الله بن أُبي وأصحابه، {وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ} في النفاق، وقيل: في النسب {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض} ساروا وسافروا فيها لتجارة أو غيرها {كَانُواْ غُزًّى} غزاة فقتلوا، والغزي جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض ونصب، واحدها غاز مثل قائم وقوم، وصائم وصوم، وشاهد وشهد وقائل وقول، ومن الناقص مثل هاب وهبي وعاف وعفي.
{لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً} يعني قولهم وظنهم حزناً {فِي قُلُوبِهِمْ} والحسرة الاغتمام على فائت كان تقدر بلوغه.
قال الشاعر:
فواحسرتي لم أقضِ منهما لبانتي *** لم أتمتع بالجوار وبالقرب
ثم أخبر أن الموت والحياة إلى الله لا يتقدمان لسفر ولا يتأخران لحضر فقال: {والله يُحْيِي وَيُمِيتُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
قرأ ابن كثير وطلحة والأعمش والحسن وشبل وحمزة والكسائي وخلف: {يعملون} بالياء، الباقون: بالتاء.
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ}.
قرأ نافع وأكثر أهل الكوفة ما كان من هذا الباب: بكسر الميم، وقرأ الآخرون: بالضم، فمن ضمّه فهو من قال: يموت كقولك من كان يكون كنت، ومن قال يقول قلت، ومن كسر فهو من مات يمات متّ كقولك من خاف يخاف خفت ومن هاب يهاب هبت.
{لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله} في العاقبة {وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} من الغنائم.
قرأه العامة: {تجمعون} بالتاء لقوله: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ}، وقرأ حفص: بالياء على الخبر عن الغالبين، يعني خير ممّا يجمع الناس من الأموال.
{وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} في العاقبة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله} أي فبرحمة من الله (ما) صلة كقوله عزّ وجلّ: {فَبِمَا نَقْضِهِم} [المائدة: 13] و{عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] و{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} [ص: 11].
وقال بعضهم: يحتمل لأن تكون ما استفهاماً للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله {لِنتَ لَهُمْ} أي سهّلت لهم أخلاقك وكثر احتمالك، ولم يسرع إليهم فيما كان منهم يوم أُحد.
يقال: لآنَ له يَلين ليناً ولياناً إذا رقَّ له وحسن خلقه.
{وَلَوْ كُنتَ فَظًّا} يعني جافياً سيء الخلق قاسي القلب قليل الاحتمال، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظاظاً فانت فظ، والانثى فظة، والجمع فظاظ.
وأنشد المفضل:
وليس بفظ في الأداني والاولى *** يؤمون جدواه ولكنه سهل
وقال آخر:
أموت من الضر في منزلي *** وغيري يموت من الكظة
ودنيا تجود على الجاهلين *** وهي على ذي النهى فظة
{غَلِيظَ القلب}، قال الكلبي: فظاً في القول غليظ القلب في الفعل.
{لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} لنفروا وتفرقوا عنك يقال: فضضتهم وانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا.
قال أبو النجم يصف إبلا:
مستعجلات القبض غير جرد *** ينفض عنهنّ الحصى بالصّمد
وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك، قال أهل الإشارة في هذه الآية: منه العطاء ومنه الثناء.
{فاعف عَنْهُمْ} تجاوز عنهم ما أتوا يوم أُحد {واستغفر لَهُمْ} حتي أشفعك فيهم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} أي استخرج آراءهم فأعلم ما عندهم، وهو مأخوذ من قول العرب: وشرت الدابة وشورته، إذا استخرجت جريه وأعلمت خبره وتفنن لما يظهر من حالها مستوراً، وللموضع الذي يشور فيه أيضاً يتولد، وقد يكون أيضاً من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشار ومشتار إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه.
وقال عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له *** وحديث مثل ماذي مشار
واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه وتتابع الوحي عليه ووجوب طاعته على أمته بما أحبوا وكرهوا.
فقال بعضهم: هو خاص في المعنى وإن كان عاماً في بعض اللفظ، ومعنى الآية: وشاورهم فيما يسر عندك فيه من الله عهد، ويدل عليه قراءة ابن عباس: وشاورهم في بعض الأمر.
قال الكلبي: يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكان الحرب عند الغزو.
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شُقّ عليهم، فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم في الأمر الذي يريده، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم وأطيب لأنفسهم، وإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم وأن القوم إذا عزموا وأرادوا بذلك وجه الله تعالى عزم الله لهم على الأرشد.
قال الشافعي رضي الله عنه: ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «البكر تستأمر في نفسها» إنما أمرنا استئذآنها لاستطابه نفسها وإنها لو كرهت كان للأب أن يزوجها.
وكمشاورة إبراهيم عليه السلام ابنه حين أمر بذبحه.
وقال الحسن: قد علم الله أنه مابه إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده، ودليل هذا التأويل ما روى أبو حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شقى عبد قط بمشورة وما سعد باستغناء برأي» يقول الله عزّ وجلّ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} فبالله وكتابه ورسوله غنى عن المشورة، ولكن الله عزّ وجلّ أراد أن تكون بيّنة فلا يبرم أمر الدين والدنيا حتى تشاوروا، وقد أثنى الله على أهل المشاورة فقال: {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان أُمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم ولم يكن أمركم شورى بينكم فبطن الأرض خير من ظهرها».
أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني عمي:
إذا كنت في حاجة مرسلا *** فأرسل حكيماً ولا توصه
وإن ناب أمر عليك التوى *** فشاور لبيباً ولا تعصه
ونص الحديث إلى أهله *** فإن الوثيقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الإله *** تبين ذلك في شخصه
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن المنذر الضرير، قال أبو سلمة المؤدب:
شاور صديقك في الخفي المشكل *** واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذلك نبيّه *** في قوله شاورهم وتوكل
{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} لا على مشاورتهم.
وقرأ جعفر الصادق رضي الله عنه وجابر بن زيد: {فإذا عزمتُ} بضم التاء أي عزمت لك ووفقتك وأنشدتك فتوكل على الله، والتوكل التفعل من الوكالة يقال: وكّلت الأمر إلى فلان فتوكل أي ضمنه وقام به، فمعنى قوله: (توكل) أي قم بأمر الله وثق به واستعنه.
فصل في التوكل:
اختلفت عبارات العلماء في معنى التوكل وحقيقة المتوكل:
فقال سهل بن عبد الله رحمة الله عليه: أول مقام التوكل، أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل، يقلّبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير، والمتوكل لا يسأل ولا يرد ولا يحبس.
أبو تراب النخشبي: التوكل الطمأنينة إلى الله عزّ وجلّ. بشر الحافي: الرضا، وعن ذي النون وقد قال له رجل: يا أبا الفيض ما التوكّل؟ قال: خلع الأرباب وقطع الأسباب. فقال: زدني فيه حالة أخرى. فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية.
وقال إبراهيم الحواص: حقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء ممّا سوى الله، ابن الفرجي: ردَّ العيش لما يوم واحد واسقاط غم غد، وعن علي الروذباري قال: مراعاة التوكل ثلاث درجات:
الأولى منها: إذا أعطى شكر وإذا مُنع صبر.
والثانية: المنع والإعطاء واحد.
والثالثة: المنع مع الشكر أحب إليه، لعلمه باختيار الله ذلك له.
وروى عن إبراهيم الخواص أنه قال: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصاً حسناً فقلت: أجنيٌ أم إنسيٌ؟ فقال: بل جنيٌّ. فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى مكة. قلت: بلا زاد؟ قال: نعم، فينا أيضاً من يُسافر على التوكل. فقلت له: ما التوكل؟ قال: الأخذ من الله.
ذو النون أيضاً: هو انقطاع المطامع.
سهل أيضاً: معرفة معطي أرزاق المخلوقين ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون السماء عنده كالصِفر والأرض عنده كالحديد، لا ينزل من السماء مطر ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى ما ضمن له من رزقه بين هذين.
وعن بعضهم: هو أن لا يعصي الله من أجل رزقه.
وقال آخر: حسبك من التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصراً غير الله ولا لرزقك خازناً غيره ولا لعملك شاهداً غيره.
الجنيد رحمه الله: التوكل أن تقبل بالكلية على ربّك، وتعرض ممّن دونه.
النوري: هو أن يفني تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلا ومدبراً، قال الله عزّ وجلّ: {وكفى بالله وَكِيلاً}
[النساء: 81] وقيل: هو اكتفاء العبد الذليل بالربّ الجليل، كاكتفاء الخليل بالخليل حين لم ينظر إلى عناية جبرئيل.
وقيل: هو السكون عن الحركات اعتماداً على خالق الأرض والسماوات.
وقيل لبهلول المجنون: متى يكون العبد متوكلاً؟ قال: إذا كان النفس غريباً بين الخلق، والقلب قريباً إلى الحق.
وعن محمد بن عمران قال: قيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال: أربع خلال: علمت أن رزقي ليس يأكله غيري فلست أُشغل به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أُبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال فأنا مستحي منه.
وعن أبي موسى الوبيلي قال: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ الرسغ، لم تخف مع الله شيئاً.
قال أبو موسى: ذهبت إلى أبي يزيد البسطامي: أسأله عن التوكل، فدخلت بسطام ودفعت عليه الباب فقال لي: يا أبا موسى ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني؟ فقلت: افتح الباب، فقال: لو زرتني لفتحت لك الباب، وإذا جاء الجواب من الباب فانصرف: لو أن الحيّة المطوقة بالعرش همّت بك لم تخف مع الله شيئاً.
قال أبو موسى: فانصرفت حتى جئت إلى دبيل فأقمت بها سنة، ثم أعتقدت الزيارة فخرجت إلى أبي يزيد فقال: زرتني مرحباً بالزائرين لا أخرجك، قال: فأقمت عنده شهراً لا يقع لي شيء إلاّ أخبرني قبل أن أسأله فقلت له: يا أبا يزيد أخرج وأريد فائدة منك أخرج بها من عندك.
قال لي: اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة، حدثتني أُمّي أنها كانت حاملة بي وكانت إذا قدمت لها القصعة من حلال امتدت يدها وأكلت، وإذا قدمت من حرام جفت فلم تأكل، اجعلها فائدة وانصرف. فجعلتها فائدة وانصرفت.
وروى طاوس اليماني رحمه الله قال: رأيت أعرابياً قد جاء براحلة له فأبركها وعقلها، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إن هذه الراحلة وما عليها في ضمانك حتى أخرج إليها. فخرج الأعرابي وقد أخذت الراحلة وما عليها، فرفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إنه ما سرق مني شيء وما سرق إلاّ منك. فقال طاوس: فنحن كذلك مع الأعرابي إذ رأينا رجلا من رأس أبي قبيس يقود الراحلة بيده اليسرى ويمينه مقطوعة معلقة في عنقه، حتى جاء إلى الأعرابي وقال له: هاك راحلتك وما عليها. فقيل له: وما حالك؟ فقال: استقبلني فارس على فرس أشهب في رأس أبي قبيس فقال: يا سارق مدّ يدك فمددتها فوضعها على حجر ثم أخذ آخر فقطعها به وعلقها في عنقي وقال: انزل فرد الراحلة وما عليها إلى الأعرابي.
وعن أبي تميم الحبشاني قال: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطانا».
روى محمد بن كعب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزّ وجلّ ومن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق ممّا في يديه».
وكان عمر رضي الله عنه يتمثل بهذين البيتين:
هوّن عليك فإن الأمور *** بأمر الإله مقاديرها
نفس ليأتيك مصروفها *** ولا عادك عنك مقدورها
{إِن يَنصُرْكُمُ الله} يعينكم الله من عدوكم {فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} في يوم بدر {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} يترككم ولا ينصركم، والخذلان: القعود عن النصرة والاستسلام للهلكة والمكروه، ويقال للبقرة والظبية إذا تركت ولدها وتخلفت عنها: خذلت فهو خذول.
قال طرفة:
خذول تراعي ربرباً بخميلة *** تناول أطراف البرير وترتدي
وأنشد:
نظرت إليك بعين جارية *** خذلت صواحبها على طفل
وقرأ أبو عبيد بن عمير: {وإن يُخذِلكم} بضم الياء وكسر الذال، أي نجعلكم مخذولين ونحملكم على الخذلان والتخاذل كما فعلتم بأُحد.
{فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} أي من بعد خذلانه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون * وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} الآية.
روى عكرمة ومقسم عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى جويبر بن الضحاك عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع في يده غنائم هوازن يوم حنين غلّه رجل بإبرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في غنائم أُحد حين ترك الرماة المركز، وطلبوا الغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له، وأن لا يقسّم الغنائم كما لم يقسّم يوم بدر، فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟»قالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل ظننتم أن نغل ولا نقسم»فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى بعضهم عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع فغنمت، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقسم للطلائع، فلما قدمت الطلائع قالوا: قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية.
قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي عليه السلام وقد غلّ طوائف من أصحابه.
وفي بعض التفاسير: أن الأقوياء ألحّوا عليه يسألونه عن المغنم، فأنزل الله عزّ وجلّ {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} فيعطي قوماً ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية ولا يحرم أحداً.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: هذا في الوحي يقول: ما كان لنبي أن يغل ويكتم شيئاً من وحي الله عزّ وجلّ رغبة أو رهبة أو مداهنة، وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وسب آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
فأما التفسير فقرأ السلمي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وعاصم: {يَغَل} بفتح الياء وفتح الغين، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة.
وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الغين وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي حاتم، فمعناه أن يخون، والمراد به الأمة.
وقال بعض أهل المعاني: اللام فيه منقولة، معناه: ما كان النبي ليغل، وما كان الله عزّ وجلّ أن يتخذ من ولد، أي ما كان الله ليتخذ من ولد.
وقال بعضهم: هذا من ألطف التعريض لها بأن برأ ساحة النبي صلى الله عليه وسلم من الغلول، دلّ على أن الغلول في غيره، ونظيره قوله عزّ وجلّ: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] وهذا معنى قول السدي.
وقال المفضل: معناه ما كان يظن به ذلك ولا يشبهه ولا يليق به، فاحتج أهل هذه القراءة بقول ابن عباس: كيف لا يكون له أن يغل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء يقتل.
ومن قرأ بضم الياء فله وجهان:
أحدهما: أن يكون من الغلول، أي ما كان النبي أن يغل، أي أن يخان، يعني أن تخونه أُمّته.
والوجه الآخر: أن يكون من الإغلال، معناه ما كان لنبي أن يخون أو يُنسب إلى الخيانة أو يوجد خائناً أو يدخل في جملة الخائنين، فيكون أغل وغلل بمعنى واحد، كقوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] وقوله: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17].
وقال المبرد: تقول العرب: أكفرت الرجل بمعنى جعلته كافراً ونسبته إلى الكفر وحملته عليه ووجدته كافراً ولحقته بالكافرين.
{وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة}، قال الكلبي: يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له: انزل فخذه، فينزل فيحمله على ظهره، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم كلفه أن ينزل إليه فيخرجه فيفعل ذلك.
وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره وقال: «لا ألقينَّ أحدكم يجيء على رقبته يوم القيامة بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا ألقينَّ أحدكم بصامت يقول: يا رسول الله اغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخنق يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك».
وحدث سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو في النار فوجدوا عليه عباءة قد غلّها».
وحدث الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له أبو اللبيبة على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أُهدي له، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال العامل يبعث فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليَّ، أفلا يجلس في بيت أبيه أو أمّه وينظر ما يُهدى إليه، والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد منكم فيأخذ منه شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة له خوار أو شاة يثغر ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة أبطيه فقال: اللهم قد بلغت».
وعن زيد بن خالد: «أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلّوا على صاحبكم» فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: «إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله» ففتشنا متاعه لذلك، فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين.
وعن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فلم يغنم ذهباً ولا ورقاً إلاّ الثياب والمتاع قال: فتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى وقد أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مدعم فبينا مدعم يحطّ رجل رسول الله إذ جاءه سهم فقتله، فقال الناس: هنيئاً له الجنة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلاّ والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً». فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شراك من نار أو شراكان من نار».
وعن عبيد الله بن عمير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيجمعه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنّا أصبنا من الغنيمة فقال: «أسمعت قد نادى ثلاثاً؟» قال: نعم، قال: «فما منعك أن تجيء به» فاعتذر إليه، فقال: «كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك».
وعن صالح بن محمد بن مائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأُتي برجل قد غَلّ فسئل سالم عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غلّ فاحرقوا متاعه واضربوه» قال: فوجدنا في متاعه مصحفاً، فسأل رجل سالماً عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد حرقوا متاع الغال وضربوه وفي بعض الروايات ومنعوه سهمه.
وعن صالح بن محمد قال: غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز فغلّ رجل متاعاً، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} بترك الغلول {كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله} فغلَّ {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير * هُمْ دَرَجَاتٌ} يعني ذو درجات {عِندَ الله}.
وقال ابن عباس: يعني أن من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله مختلف المنازل عند الله تعالى، فلمن اتبع رضوان الله الكرامة والثواب العظيم، ولمن باء بسخط من الله المهانة والعذاب الأليم.
{والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين}.
قال بعضهم: لفظ الآية عام ومعناها خاص، إذ ليس حي من أحياء العرب إلاّ وقد قلّدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيهم نسب إلاّ بني تغلب، فإن الله طهّره منهم لما فيهم من دنس النصرانية إذ ثبتوا عليها، وبيان هذا التأويل قوله: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} [الجمعة: 2].
وقال الآخرون: {هو} أراد به المؤمنين كلهم، ومعنى قوله: {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} بالإيمان والشفقة لا بالنسب كما يقول القائل: أنت نفسي، يدل عليه قوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] الآية.
{يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ} وقد كانوا من قبل بعثه، وهو رفع على الغاية {لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * أَوَ لَمَّا} أوحين {أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} أُحد {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} ببدر، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أُحد سبعين وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين {قُلْتُمْ أنى هذا} من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا والوحي ينزل علينا وهم مشركون.
وروى عبيدة السلماني عن علي قال: جاء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للناس فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا، لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى بها على قتال عدونا، منّا عدتهم فليس في ذلك ما نكره، قال: فقتل منهم يوم أُحد سبعون رجلا عدد أُسارى يوم بدر، فمعنى قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} على هذا التأويل أي: بأخذكم الفداء واختياركم القتل.
{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَآ أَصَابَكُمْ} يا معشر المؤمنين {يَوْمَ التقى الجمعان} بأُحد من القتل والجرح والهزيمة والمصيبة {فَبِإِذْنِ الله} بقضائه وقدره وعلمه {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين} أي ليميّز، وقيل: ليرى، وقيل: لتعلموا أنتم أن الله عزّ وجلّ قد علم ما فيهم وأنتم لم تكونوا تعلمون ذلك {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} لأجل دين الله وطاعته {أَوِ ادفعوا} عن أهلكم وبلدتكم وحريمكم.
وقال السدي والفراء وأبو عون الأنصاري: أي كثروا سواد المسلمين، ورابطوا إن لم تقاتلوا، كون ذلك دفعاً وقمعاً للعدو {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} وهم عبد الله بن أُبي وأصحابه الذين انصرفوا عن أُحد وكانوا ثلثمائة، قال الله: {هُمْ لِلْكُفْرِ} أي إلى الكفر {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وذلك أنهم كانوا ينكرون الإيمان ويضمرون الكفر، فبيّن الله عزّ وجلّ نفاقهم {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ} في النسب لا في الدين، وهم بهذا واحد {وَقَعَدُواْ} يعني وقعد هؤلاء القاعدون عن الجهاد {لَوْ أَطَاعُونَا} وانصرفوا عن محمد وقعدوا في بيوتهم {مَا قُتِلُوا قُلْ} لهم يا محمد فادفعوا {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إن الحذر لا يغني عن القدر.


{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} الآية.
قال بعضهم: نزلت هذه الآية في شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر رجلاً، ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، وقال آخرون: نزلت في شهداء أُحد، وكانوا سبعين رجلاً، أربعة من المهاجرين، حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار.
وروى ابن الزبير وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أُصيب إخوانكم يوم أُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تزور أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلمّا وجدوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم، ورأوا ما أعد الله تعالى لهم من الكرامة.
قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا، كي يرغبوا في الجهاد ولا ينكلوا عنه، فقال الله تعالى: أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم، ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} إلى قوله: {أَجْرَ المؤمنين}».
قال قتادة والربيع: ذُكر لنا أنّ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا ليتنا نعلم ما فعل بإخواننا الذين قتلوا يوم أُحد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مسروق: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية فقال: جعل الله عزّ وجلّ أرواح شهداء أُحد في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، قال: فأطلع الله تعالى عليهم اطلاعة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: ربّنا ألسنا نسرح في الجنة في أيّها شئنا، ثم اطلع عليهم الثانية فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ فقالوا: ربّنا أليس فوق ما أعطيتنا شيئاً إلاّ أن نحب أن تعيدنا أحياء، ونرجع إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى فيك قال: لا. فقالوا: فتقرئ نبيّنا منّا السلام وتخبره بأن قد رضينا ورضي عنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال جابر بن عبد الله: قتل أبي يوم أُحد وترك عليَّ بنات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألاّ أُبشرك يا جابر قلت: بلى يا نبي الله قال: إنّ أباك حيث أُصيب بأُحد أحياه الله وكلمه كلاماً فقال: يا عبد الله سلني ما شئت قال: أسألك أن تعيدني إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانياً، فقال: يا عبد الله إني قضيت أن لا أعيد خليقة إلى الدنيا. قال: يا ربِّ فمن يبلّغ قومي ما أنا فيه من الكرامة. قال الله تعالى: أنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية».
حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا ولها الدنيا وما فيها إلاّ الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أُخرى».
وقال بعضهم: نزلت في شهداء بئر معونة، وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وعبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنّة وكان سيد بني عامر بن صعصعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأهدى إليه هدية، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها وقال: «يا أبا براء أنا لا أقبل هدية مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك» ثم عرض عليه، وأخبره بما له فيها وما وعد الله المؤمنين من الثواب، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أخشى عليهم أهل نجد»فقال أبو براء: أنا لهم جار أي هم في جواري فابعثهم ليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلاً من خيار المسلمين، فيهم الحارث بن الضمة وحَرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهير مولى أبي بكر، وذلك في صَفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحد، فساروا حتى نزلوا بين معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، فلما نزلوها قال بعضهم لبعض: أيّكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال حَرام بن ملحان: أنا، فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء، فلما أتاهم حَرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرام: يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم وإني أشهد أن لا اله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله.
فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر فزت وربّ الكعبة. ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقداً وجواراً. فاستصرخ قبائل من بني سليم عصبة ورعيل وذكوان فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوهم في رجالهم، فلما رأوهم أخذوا السيوف ثم قاتلوهم حتى قتلوا من آخرهم إلاّ كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أميّة الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف، فلم ينبههما على مصاف أصحابهما إلاّ الطير يحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذا الطير لشأناً، فأقبلا لينظرا إليه فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أميّة: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني لا أرغب بنفسي عن موطن قُتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قُتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمّه، فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال رسول الله: «هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً».
فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره، وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة.
وروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة: أن عامر بن الطفيل كان يقول: من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه، قالوا: هو عامر بن فهيرة.
قالوا وقال حسان بن ثابت يحرض أبي براء على عامر بن الطفيل:
فتى أم البنين ألم يرعكم *** وأنتم من ذوايب أهل نجد
نهكم عامر بأبي براء *** ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي *** فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء *** وخالك ماجد حكم بن سعد
وقال كعب بن مالك في ذلك:
لقد طارت شعاعاً كل وجه *** خفارة ما أجار أبو براء
بني أم البنين أما سمعتم *** دعاء المستغيث مع النساء
وتنويه الصريخ بلى ولكن *** عرفتم أنه صدّق اللقاء
فلما بلغ ربيعة من البراء قول حسان وقول كعب بن مالك، حمل على عامر بن الطفيل وطعنه فخر عن فرسه فقال: هذا عمل أبي براء، إن متُّ فدمي لعمي ولأتبعنّ به وإن أعش فسأرى فيه الرأي. وقال إسحاق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك قال: أنزل الله تعالى في شهداء بئر معونة قرآناً بلّغوا قومنا عنا إنا قد لقينا ربّنا فرضى عنّا ورضينا عنه، ثم نسخت ورفعت بعد ما قرأناها زماناً وأنزل الله عزّ وجلّ {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} الآية.
وقال بعضهم: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سروراً تحسروا على الشهداء وقالوا: نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فأنزل الله عزّ وجلّ تنفيساً عنهم وإخباراً عن حال قتلاهم {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} ولا تظنن وروى هشام عن أهل الشام: {يحسبن} بالياء. وقرأ الحسن وابن عامر: {الذين قتّلوا} مشدداً، {أمواتاً} كموت من لم يقتل في سبيل الله، ونصب أمواتاً على المفعول الثاني، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين، فإذا قلت: حسبت زيداً، لا يكون كلاماً تاماً حتى تقول: قائماً أو قاعداً {بَلْ أَحْيَاءٌ} تقديره: بل هم أحياء.
وقرأ ابن أبي عبلة: أحياءً نصباً أي أحسبهم أحياء {عِندَ رَبِّهِمْ}.
وقال بعضهم: يعني أحياء في الدنيا حقيقة، وقيل: في العالم وقيل: بالثناء والذكر، كما قيل:
موت التقي حياة لا فناء لها *** قد مات قوم وهم في الناس أحياء
وقيل: ممّا هم أحياء.
{رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ويأكلون ويتنعمون كالأحياء، وقيل: إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة ويشتركون في فضل كل مجاهد يكون في الدنيا إلى يوم القيامة، لأنهم سلوا أمر الجهاد، فيرجع أجر من يقتدي بهم إليهم، نظيره قوله: {كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً} [المائدة: 32] الآية، وقيل: لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة، كأرواح الأحياء من المؤمنين الذين باتوا على الوضوء. وقيل: لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض.
يقال: أربعة لا تبلى أجسادهم: الأنبياء والعلماء والشهداء وحملة القرآن.
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم السلميين، كانا قد خرّب السيل قبرهما وكانا في قبر واحد وهما من شهداء أُحد، وكان قبرهما ممّا يلي السيل، فحفر عنهما ليغيّروا عن مكانهما فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين يوم أُحد وبين يوم حُفر عنهما ستة وأربعون سنة. وقيل: سمّوا أحياءً لأنهم لا يغسّلون كما لا يغسل الأحياء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «زمّلوهم في كلومهم ودمائهم، اللون لون الدم والريح ريح المسك».
وقال عبيد بن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف يوم أُحد مرَّ على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا ثم قرأ: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ} [الأحزاب: 23] الآية، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إن رسول الله يشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم وسلّموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلاّ ردّوا عليه، يرزقون من ثمار الجنة وتحفها».
{فَرِحِينَ} نصب على الحال والقطع من قوله: {يُرْزَقُونَ}.
وقرأ ابن السميقع: {فارحين} بالألف، وهما لغتان كالفرة والفأرة والحذر والحاذر والطمع والطامع والبخل والباخل.
{بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} من ثوابه {وَيَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون، وأصله من البشرة، لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في بشرة وجهه {بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على منهاجهم من الإيمان والجهاد، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا لحقوا بهم فصاروا من كرائم الله عزّ وجلّ إلى مثل ما صاروا هم إليهم، فهم لذلك مستبشرون.
وقال السدي: يؤتى الشهيد بكتاب فيه من تقدم عليه من إخوانه وأهله فيقال: تقدم فلان عليك يوم كذا وتقدم فلان يوم كذا، فيستبشر حين يقدم عليه كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا.
{أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يعني بأن لا خوف {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله} يعني وبأن الله في محل الخفض على قوله: {بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ}.
وقرأ الكسائي والفرّاء والمفضل ومحمد بن عيسى: {وأن الله} بكسر الألف على الاستثناء، ودليلهم قراءة ابن مسعود {وَاللَّهُ} {لا يضيع أجر المؤمنين}.
قال الكلبي باسناده: إن العبد إذا لقى العدو في سبيل الله، فتح له باب من السماء وأطلعت عليه زوجتاه من الحور العين، فإذا أقبل على العدو يقاتلهم قالتا: اللهم وفقه وسدّده، وإذا أدبر عن العدو قالتا: اللهم أعف وتجاوز، فإذا قتل يباهي الله عزّ وجلّ به الملائكة فيقول لهم: انظروا إلى عبدي بذل نفسه ودمه ابتغاء مرضاتي، فتقول الملائكة: يا ربّ أفلا تذهب فتنصره على من يريد قتله؟ فيقول لهم: خلّوا عن عبدي، فقد سهر ونصب في طلب مرضاتي، أحبَّ لقائي وأحببت لقاءه. فينزل إليه زوجتاه من الحور العين، ويأمر الله الملائكة أن يأتوه من آفاق الأرض، فيحبونه ويبشرونه بالجنة والكرامة من الله تعالى، فإذا فعلوا ذلك بعث الله إليهم: أن خلّوا بين عبدي وبين زوجته حتى يستريح، فتقول زوجتاه: لقد كنا إليك بالأشواق، ويقول لهما مثل ذلك.
وعن الحسين بن علي عليه السلام قال: بينما علي بن أبي طالب يخطب الناس ويحثهم على الجهاد إذ قام إليه شاب وقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله؟ قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته العصباء ونحن منقلبون من غزوة، فسألته عمّا سألتني عنه فقال صلى الله عليه وسلم: «الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله تعالى لهم براءة من النار، فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله تعالى بهم الملائكة، فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحية من سلخها، يوكل عزّ وجلّ بكل رجل منهم أربعين ألف ملك يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يعمل حسنة إلاّ ضعفت له، وكتب له كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله عزّ وجلّ ألف سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، اليوم مثل عمر الدنيا، فإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم، فإذا برزوا لعدوّهم وأشرعت الأسنّة وفوّقت السهام وتقدم الرجل إلى الرجل حفّتهم الملائكة بأجنحتها ويدعون الله لهم بالنصرة والتثبت، ونادى مناد: الجنة تحت ظلال السيوف، فتكون الضربة والطعنة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف، وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله تعالى إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة، وإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيب التي أُخرجت من البدن الطيب أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».
ويقول الله تعالى: «أنا خليفته في أهله، من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني، ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش، ويعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس، سلوك كل غرفة ما بين صنعاء والشام يملأ نورها ما بين الخافقين، في كل غرفة سبعون باباً، على كل باب سبعون مصراعاً من ذهب، وعلى كل باب سبعون غرفة مسبلة، وفي كل غرفة سبعون خيمة، في كل خيمة سبعون سريراً من ذهب قوائمها الدر والزبرجد، مزمولة بقضبان الزمرد، على كل سرير أربعون فراشاً، غلظ كل فراش أربعون ذراعاً، على كل فراش زوجة من الحور العين {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة: 37]».
فقال الشاب: يا أمير المؤمنين أخبرني عن العروبة؟ قال: هي الغنجة الرضية المرضية الشهية، لها ألف وصيف وسبعون ألف وصيفة، صفر الحلي بيض الوجوه، عليهن تيجان اللؤلؤ، على رقابهم المناديل، بأيديهم الأكواب والأباريق، وإذا كان يوم القيامة يخرج من قبره شاهراً سيفه تشخب أوداجه دماً، اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك، يخطو في عرصة القيامة. فوالذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم، ممّا يرون من بهائهم، حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألف من أهل بيته وجيرته، حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جواراً فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد، فينظرون إلى الله في كل يوم بكرة وعشية.
وروى مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي: رجل كانت له صحبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يكفّر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوَّج من الحور العين، ويؤمن الفزع الأكبر وعذاب القبر، ويحلّى بحلية الإيمان».
ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فأتاه رجل أسود فقال: يا رسول الله إني أسود قبيح الوجه منتن الريح لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أُقتل فأين أنا؟ قال: «في الجنة» قال: فحمل عليهم فقاتل حتى قُتل، قال: فجاء رسول الله عليه السلام حتى وقف على رأسه فقال: «لقد بيّض الله وجهك وطيّب ريحك وأكثر مالك» ثم قال: «لقد رأيت زوجتيه من الحور العين في الجنة تنازعانه جبة له من صوف، ليدخلا بينه وبين جبته».
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يجد الشهيد من القتل في سبيل الله إلاّ كما يجد أحدكم مسَّ القرصة».
وفي غير هذا الحديث: «عضة نملة أشد على الشهيد من مس السلاح».
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عباداً يصونهم عن القتل والزلازل والأسقام، يطيل أعمارهم في حسن العمل، ويحسن أرزاقهم ويُحييهم في عافية ويقبض أرواحهم في عافية على الفرش، ويعطيهم منازل الشهداء».
{الذين استجابوا للَّهِ والرسول} الآية، وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا عن المسلمين من أُحد فبلغوا الروحاء، ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا: لا محمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى لم يبق منهم إلاّ الشريد، تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم، فبلغ ذلك الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يذهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، فقال: «ألا عصابة تشدد لأمر الله تطلب عدوها فإنها أنكأ للعدو وأبعد للسمع»فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجروح والقروح الذي أصابهم يوم أُحد، ونادى منادي رسول الله: ألا لا يخرجن فيها أحد إلاّ من حصر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجلٌ فيهم، ولست بالذي أُؤثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف على أخواتك، فتخلفته عليهن، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرعباً للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم فينصرفوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا، حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال.
وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير: يابن أُختي أما والله إن أباك وجدّك يعني أبا بكر والزبير لمن الذين قال الله: {الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح}.
وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السايب: أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان شهد أُحداً، قال: «شهدت أُحداً أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذّن مؤذّن رسول الله بالخروج في طلب العدو قلنا: لا تفوتنا غزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما لنا دابة نركبها وما منّا إلاّ جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحاً من أخي وكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئاً كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالروحاء، قد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد أصبنا جلّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرّن على بقيتهم فلنفرغن منهم، فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه بطلبكم في جمع لم أرَ مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقاً قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أرَ مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنأتي على بقيتهم. قال: فإني والله أنهاك عن ذلك فقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتاً.
قال: وما قلت؟ قال: قلت:
* كادت تهدّ من الأصوات راحلتي * إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل *
* تردي بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا خرق معاذيل *
* فظلت عدواً أظن الأرض مائلة * لمّا سمعوا برئيس غير مخذول *
* فقلت: ويٌ لابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحاء بالجيل *
* إني نذير لأهل السير ضاحية * ولكل ذي إربة منهم ومعقول *
* من جيش أحمد لا وحش قنابله * وليس يوصف ما أثبت بالقيل *
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومرَّ به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟
قالوا: نريد المدينة نريد الميرة.
قال: فهل أنتم مبلّغون محمداً عني برسالة أرسلكم بها وأُحمّل لكم إبلكم هذه زبيباً بسوق عكاظ إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه إنا قد أجمعنا إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومرَّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان.
فقال رسول الله وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثالثة إلى المدينة وقد ظفر في وجهه بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غرة الجمحي،».
هذا قول أكثر المفسرين.
وقال مجاهد وعكرمة: نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان قال يوم أُحد حين أراد أن ينصرف: يا محمد موعدنا بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك بيننا وبينك إن شاء الله»فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية من الظهران، ثم ألقى الله عزّ وجلّ الرعب في قلبه قبل الرجوع، فلقى نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال له أبو سفيان: يا نعيم إني واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلاّ عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جرأة، ولأن يكون الخلف من جهتهم أحبُّ إليَّ من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنّا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو يضمنها.
قال: فجاء سهيل فقال له نعيم: يا أبا يزيد أتضمن لي هذه الفرائض فانطلق إلى محمد وإثبطه. قال: نعم، فخرج نعيم حتى قدم المدينة فوجد الناس يتجهزون بميعاد أبو سفيان، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها.
قال: بئس الرأي رأيتم، أتوكم في دياركم وقراكم فلم يفلت منكم إلاّ شريد، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، والله لا يفلت منكم أحد. فكره أصحاب رسول الله الخروج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي» فأما الجبان فرجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون: قد جمعوا لكم. يريدون أن يرعبوا المسلمين، فيقول المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى لقوا بدر وهو ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة، فسماهم أهل مكة جيش السويق وقالوا: إنما خرجتم تشربون السويق، فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحداً من المشركين ببدر، ووافوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوها وأصابوا الدرهم والدرهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، فذلك قوله تعالى: {الذين استجابوا للَّهِ والرسول}.
ومحل {الذين} خفض على صفة المؤمنين تقديره {وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين} المستجيبين لله والرسول ومعنى الاستجابة: الاجابة والطاعة، نظيره قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} [البقرة: 186] فليطيعوا لي {مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح} أي نالهم الجراح والكلوم، وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ} بطاعة رسول الله وإجابته إلى الغزو {واتقوا} معصيته وطاعته {أَجْرٌ عَظِيمٌ} ثواب كثير {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} ومحل {الذين} خفض أيضاً مردود على الذين الأول، وأراد {بالناس} نعيم ابن مسعود في قول مجاهد ومقاتل وعكرمة والواقدي، وهو على هذا التأويل من العام الذي أُريد به الخاص، نظيره قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} [النساء: 54] يعني محمداً وحده، وقوله: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] يريد الرجال وحدهم.
وقال ابن اسحاق وجماعة: يريد ب {الناس} الركب من عبد القيس وقد مضت قصتهم.
وقال السدي: «لما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه للمسير إلى ميعاد أبي سفيان، أتاهم المنافقون وقالوا: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم فعصيتمونا، وقد أتوكم في داركم وقاتلوكم وظفروا، فإن أتيتموهم في ديارهم لا يرجع أحد منكم. فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل».
وقيل: {الناس} ساروا الناس في هذه الآية هم المنافقون.
وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقالوا: قد جمعوا لكم جموعاً كثيرة فاجتنبوهم. فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله تعالى {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} يعني أولئك القوم من بني هذيل {إِنَّ الناس} يعني أبا سفيان وأصحابه {قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} فخافوهم واحذروهم، فإنه لا طاقة لكم بهم {فَزَادَهُمْ} ذلك {إِيمَاناً} يعني تصديقاً ويقيناً وقوة وجرأة.
ذكر بعض ما ورد في الأخبار في زيادة الإيمان ونقصانه:
روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قلنا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص؟ قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار».
عطاء: إنما مجادلة أحدكم في الحق، فيكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار. قال: فيقولون: ربّنا إخواننا كانوا يصلّون معنا ويصومون معنا ويحجّون معنا فأدخلتهم النار. قال: فيقول: إذهبوا فأخرجوا من قد عرفتم منهم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيخرجونهم فيقولون: ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا. قال: ثم يقول لهم: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم كان في قلبه وزن نصف دينار، حتى يقول فمن كان في قلبه ذرة.
وعن سهل بن حنيف قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليَّ وعليهم قميص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» قالوا: فماذا أولت يا رسول الله؟ قال: «الدين».
وعن هذيل بن شرحبيل عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض أو بإيمان هذه الأمة لربح به».
وعن ابن سابط قال: كان عبد الله بن رواحة يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: تعالوا نؤمن ساعة تعالوا نزدد إيماننا، تعالوا نذكر الله تعالى، تعالوا نذكره بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته.
وعن عبد الله بن عمرو بن هند قال: قال علي كرم الله وجهه: إن الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت بياضاً، حتى يبيضّ القلب كله، وإن النفاق يبدأ نقطة سوداء في القلب، وكلما ازداد النفاق ازدادت سواداً، حتى يسوّد القلب كله، والذي نفسي بيده لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض القلب ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود القلب.
وعن عمير بن حبيب بن خماشة قال: الإيمان يزيد وينقص. فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا ربّنا وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيقنا فذلك نقصانه.
وعن محمد بن طلحة عن زبيد عن زر قال: كان عمر ممّا يأخذ الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: قم بنا نزدد إيماناً.
وعن محمد بن فضيل عن أبيه عن سماك عن إبراهيم عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه: امشوا بنا نزدد إيماناً.
وعن الحرث بن عمير عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزيد وينقص.
وعن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: الإيمان يزداد وينقص.
الحرث بن الحصين عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزداد وينقص.
أبو حذيفة: إن عمر بن عبد العزيز قال: الإيمان يزيد وينقص.
سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما نقصت أمانة عبد قط إلاّ نقص من إيمانه.
وعن عثمان بن سعد الدارمي قال: سألت محمد بن كثير العبدي عن الإيمان فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت: أكان سفيان يقوله؟ قال: نعم بلا شك.
وقال: سألت أبا حذيفة موسى بن مسعود عن الإيمان قال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت: أكان سفيان يقوله؟ قال: نعم.
قال: وسألت عارم بن الفضل عن الإيمان، فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت: أكان حماد بن يزيد يقوله؟ قال: نعم.
قال: وسألت أبا الوليد الطيالسي عن الإيمان، فقال: قول وعمل ونية، قلت: أيزداد وينقص؟ قال: نعم.
قال: وسألت سليمان بن حرب عن الإيمان، فقال: مثل ذلك.
قال: وسمعت مسلم بن إبراهيم يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
قال: وسألت علي بن عبد الله المديني عن الإيمان، قال: قول وعمل ونية، قلت: أينقص ويزداد؟ قال: نعم يزداد وينقص حتى لا يبقى منه شيء.
قال: وسألت عمر بن عون الواسطي عن الإيمان فقال: مثل ذلك. قال: وسمعت يحيى بن يحيى يقول: الإيمان قول وعمل والناس يتفاضلون في الإيمان. قال: وسألت أحمد بن يونس عن الإيمان. قال: هو عمل يزيد وينقص.
قال: وسألت عبد الله بن محمد الطفيل وكان مُتّقياً عن الإيمان فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، فأروه عني.
قال: وسألت أبا بويه الجيلي عن الإيمان فقال: قول وعمل يزيد وينقص.
قال: وسمعت محبوب بن موسى الأنطاكي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ومن كره الاستثناء فقد أخطأ السنّة. قلت: أكان أبو إسحاق الفراري يقوله؟ قال: كان أبو إسحاق يخرج من المصيصة من لا يقول الإيمان يزيد وينقص.
قال: وسمعت محبوب بن موسى يقول: سمعت يوسف بن أسباط يقول: الإيمان يزيد وينقص.
قال: وسمعت الحسين بن عمر السجستاني يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
قال الحسن: وكان وكيع بن الجراح وعمر بن عمارة وابن أبي برزة وزهير بن نعيم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
قوله تعالى: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} أي كافينا وثقتنا، والنون والألف مخفوضتان بالإضافة كقولك: حسب زيد درهم، لان حسب اسم وإن كان في مذهب الفعل ألا ترى ضمة الثانية.
قال الشاعر:
فتملأ بيتنا إقطا وسمنا *** وحسبك من غنىً شبع وريّ
{وَنِعْمَ الوكيل} أي الموكول إليه الأمور، فعيل بمعنى مفعول.
قال الواقدي: ونعم الوكيل أي المانع. نظيره قوله: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} [الإسراء: 86] أي مانعاً، وقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [الإسراء: 65].
عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان آخر ما تكلم به رسول الله إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل».
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحمد على الكيس ويلوم على العجز، وإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل».
{فانقلبوا} فانصرفوا ورجعوا، نظيره قوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} [يوسف: 62] أي رجعوا.
{بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله} أي بعافية لم يلقوا بها عدواً وبراء جراحهم {وَفَضْلٍ} بربح وتجارة، وهو ما أصابوا من السوق فربحوا {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} لم يصبهم قتل ولا جرح ولا ينالهم سوء ولا أذى ولا مكروه {واتبعوا رِضْوَانَ الله} في طاعة الله وطاعة رسوله، وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزواً؟ فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم {والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذلكم الشيطان} يعني ذلك الذي قال لكم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، من فعل الشيطان ألقى في أفواههم يرهبوهم ويجبنوا عنهم {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يخوفكم بأوليائه، أي أولياء إبليس حتى يخوّف المؤمنين بالكافرين.
وقال السدي: يعظم أولياءه في صدورهم ليخافوهم، نظيره قوله عزّ وجلّ: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] أي ببأس، وقوله: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} [غافر: 15] و{وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} [الشورى: 7] أي بيوم الجمع يخوف الناس أولياءه، كقول القائل: ويعطى الدراهم ويكسي الثياب، بمعنى هو يعطي الناس الدراهم ويكسي الناس الثياب. يدل عليه قراءة ابن مسعود: {يخوف الناس أولياءه}.
وروى يحيى بن اليمان عن طلحة عن عطاء أنه كان يقرأ {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}.
وروى محمد بن مسلم بن أبي وضاح قال: حدثنا علي بن خزيمة قال: في قراءة أُبي بن كعب: يخوفكم بأوليائه. {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} في ترك أمري {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} مصدقين بوعدي فإني المتكفل لكم بالنصر والظفر {وَلاَ يَحْزُنكَ}.
قرأ نافع: {يُحزِنك} بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك جميع ما في القرآن من هذا الفعل، إلاّ التي في الأنبياء {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] فإنه بفتح الياء وضم الزاي، وضده أبو جعفر، وقرأ ابن محيصن كلها بضم الياء وكسر الزاي.
الباقون كلها بالفتح وضم الزاي، وهما اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهما لغتان، حزن يحزن وأحزن يحزن إلاّ أن اللغة العالية الفصيحة: حزن يحزن وأحزنته قال الشاعر:
مضى صحبي وأحزنني الديار... {الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر}.
قرأه العامة: هكذا، وقرأ طلحة بن مصرف: يسرعون.
قال الضحاك: هم كفار قريش، وقال غيره: هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار.
{إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} بمسارعتهم في الكفر ومظاهرتهم أهله {يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة} نصيباً في ثواب الآخرة، فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وفي هذه الآية ردَّ على القدرية.
{إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} استبدلوا الكفر بالإيمان {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} فإنهم يضرون أنفسهم {وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ}.
قراءة حمزة وأبي بحتريه: بالتاء.
الباقون: بالياء، فمن قرأ بالياء ف {الذين} في محل الرفع على الفاعل تقديره: ولا يحسبن الكفار أن إملاءنا خير لهم.
ومن قرأ بالتاء، قال الفراء: هو على التكرير في المعنى، ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا ولا تحسبن إنما نملي، لأنك إذا أعلمت الحسبان في الذين لم يجز أن يقع على إنما، وهو كقوله: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد: 18] يعني هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم بغتة، وقيل: موضع إنما نصب على البدل من الذين.
كقول الشاعر:
فما كان قيس هلكه هلك واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدّما
فرفع هلك على البدل، من الأول، والاملاء الإمهال والتأخير والإطالة في العمر والإنساء في الأجل، ومنه قوله تعالى: {واهجرني مَلِيّاً} [مريم: 46] أي حيناً طويلا ويقال: عشت طويلا، أي تمليت حيناً، وأصله من الملاوة والملا وهما الدهر.
قال الشاعر:
وقد أراني للغوالي مصيداً *** ملاوة كأن فوقي جلدا
والملوان: الليل والنهار.
قال تميم بن مقبل:
ألا يا ديار الحي *** بالسبعان أمل عليها بالبلى
ثم قال: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} نمهلهم {ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} نزلت هذه الآية في مشركي قريش.
قال مقاتل: قال عطاء: في قريظة والنضير.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله»، قال: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله».
وقال ابن مسعود: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ والموت لها، فأما الفاجرة فمستريح ومستراح منه، وقرأ {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} الآية، وأما البرّة فقرأ {نُزُلاً مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7